من أفضل ما تتميز به مجتمعاتنا العربية والإسلامية هي التلاحم والتعاون وحب المواساة لأهل الميت والوقوف معهم في هذه المصيبة لذلك كان من المُستحب لأهل الميت إعلام الناس وخاصة المقربين منهم بوفاته وموعد الصلاة عليه ودفنه وذلك للصلاة عليه والدعاء له وشهود جنازته والدعاء على قبره وتقديم واجب العزاء ومواساة أهل الميت هذا بالإضافة إلى أجر الصلاة وشهود الجنازة التي قال عنها المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام “من شهد الجنازة حتى يُصَلَّى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تُدْفَنْ فله قيراطان، قيل: يا رسول الله ما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين” (رواه أحمد والبخاري ومسلم).

ولم يكن من هدي النبي عليه الصلاة والسلام ما نراه هذه الأيام من التجمعات التي تقام بعد الموت وما يتكبده أهل الميت من تكاليف باهظة للاستعدادات وإقامة مراسم للعزاء لاستقبال المعزين والتي تصل بعضها لمدة ثلاث أيام متتالية من إضاءات إضافية وفرش ومقاعد للجلوس وإعدادات للقهوة والتمور وعبوات المياه وقد يصل بعضها إلى تكاليف ولائم للحاضرين وفي بعضها شيء من البذخ والإسراف والتبذير في الطعام والذي يقدم أصلا للأغنياء وغير المحتاجين، هذا بالإضافة إلى أن تجمعات العزاء أصبحت مكانا لتداول الأحاديث والموضوعات الدنيوية التي لا تتعلق بالموت وقد نسمع فيها بعض الضحكات والمسامرات التي تجرح مشاعر أهل الميت، وقد ذكر الإمام ابن باز رحمه الله (المثبت في موقعه) أنها عادات لا أصل لها وأما العزاء فليس له مكان معين فقد يكون في المقبرة قبل الدفن أو بعده ويمكن أن يكون في الطريق عند اللقاء أو في المسجد، وأما الولائم فهذا غير جائز وهو من أعمال الجاهلية.

أما الأصل في السنة النبوية فهو صنع الطعام لأهل الميت كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام حين بلغه مقتل جعفر بن أبي طالب في مؤته بالشام “ابعثوا لأهل جعفر طعاماً، فإنه قد أتاهم ما يشغلهم” (رواه أبو داود) وفيه حرص من الرسول عليه الصلاة والسلام لمراعاة أهل الميت وإعانتهم وجبر قلوبهم لانشغالهم بمصيبتهم، ويُسَنُّ للجيران والأقارب إعداد الطعام أيام الحزن كما أوصى الرسول عليه الصلاة والسلام.

وفي فترة جائحة كورونا عزف الناس عن عادة إقامة مراسم العزاء وتَقَبُّل العزاء في البيوت امتثالا لتطبيق الإجراءات الاحترازية الصحية المفروضة وتجنباً للمصافحة والتقبيل، وأستخدم الناس في هذه الفترة الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي المتاحة بشكل مثالي لتقديم واجب العزاء لأهل الميت دون إزعاج لراحتهم أو حتى الإثقال على كاهلهم بمصاريف هذه المراسم وملحقاتها، ومما لفت نظري أن بعض أهل الموتى ذكروا لي شخصيا أنهم تفرغوا لمصيبتهم دون إزعاج أو حتى استدانة خاصة أو تكاليف مرهقة من محدودي الدخل أو غير القادرين على هذه التكاليف.

ونحن هنا لسنا من المؤيدين لإلغاء بيوت العزاء كلياً ولكننا من المرجحين لأهمية التقنين من العادات والتقاليد الدخيلة على أمتنا الإسلامية ومنها التجمع لمدة ثلاثة أيام وإقامة الولائم فيها والأعباء الإضافية على أهل الميت ولا يمنع أن يكون هناك عزاء في المقبرة لأول يوم ينتهي بمجرد تقديم العزاء على أن يستقبل أهل الميت من لم يستطع الحضور للصلاة على الجنازة والدفن في البيت دون تكلفة أو إطالة وتقتصر الضيافة على القهوة والماء وبعض التمور إن وجد، وأن يكون الطعام المصنوع من الجيران والأقارب لأهل الميت فقط.

وأختم بكيفية مواساة أهل الميت الذين ابتلاهم الله بموت عزيز أو حبيب أو ولد أو نحوه وهي بمثابة فاجعة كبيرة لهم، لذلك حث الإسلام على التلاحم والتعاون وجبر خاطر المسلم لأخيه المسلم لأنه لا يستطيع مواجهة الابتلاء والمصيبة وحده، والتي تكون على سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام عندما أرسل أسامة بن زيد لتعزيته إحدى بناته رضي الله عنها عندما مات لها ابنا بجملة وهي “إنَّ للهِ مَا أخَذ، ولَهُ مَا أعْطَى، وكلُّ عِتْدَهُ بأجَلٍ مُسَمَّى، فَمُرْهَا فلتَصْبِرْ ولتَحْتَسِبْ” (والحديث في صحيح مسلم) وتذكير أهل الميت بما يشد أزرهم ويربط على قلوبهم ومساعدتهم قدر الإمكان بصنع الطعام أو قضاء احتياجاتهم أو بذكر محاسن الميت والدعاء له وتذكيرهم بأن الموت حقيقة كلنا ذاهبون لها عاجلاً أم أجلاً ولا ينفع الميت إلا ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام ” إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” (رواه مسلم).